صياف متفائل فضي
عدد الرسائل : 211 العمر : 38 السيارة : دينا 1978 الوظيفة : مليص ومبلط العمر: : 31,5 تاريخ التسجيل : 26/09/2008
| موضوع: رسائل اللحظة الأخيرة الجمعة أكتوبر 03, 2008 1:11 am | |
| نظر إلى ساعة يده، لم يبق على انطلاق المقابلة سوى دقائق، كيف يمكنه أن يقتل الوقت الباقي؟ فكر في فنجان قهوة ساخن وسيجارة، مع أنه ينوي الإقلاع عن التدخين إلا أن الرغبة الملحة في تدخين آخر سيجارة تسيطر عليه اليوم، هم بالنداء
- فتيحة..
لكنه تذكر أنها اليوم غائبة، هي والأولاد رحلوا الظهيرة، للمشاركة في عرس عائلي سيعودون غدا وهو سيجد في ذلك متعة طالما حلم بها..
- ليت غدا لا يأتي، لأنعم بالراحة المفقودة، العفاريت زلزلوا سكينة البيت.
دخل المطبخ، وجد الصينية مهيأة بلوازمها... وضاغطة القهوة على الفرن تنتظر النار فقط، هي تعرف أنه يعشق رائحة القهوة، لا طعمها، وكثيرا ما يضعها أمام أنفه يتلذذ بنكهتها المنعشة ثم يرشف منها رشفتين لا أكثر ويترك خيوط البخار تتراقص كثعبان بودي أمام ناظريه حتى تبرد فينصرف عنها. لذلك تحرص على انتقاء أجود أنواع البن، هي طريقتها الخاصة في التعبير له عن ولائها وطاعتها وإن كان يرى في ذلك رأيا آخر.. تمتم وهو يضغط على زر الفرن..
- لا تغيبي عن البيت إلا مرة في العام، وعندما تفعلي تتركين طيفك يرصد كل حركاتي، يحاصرني باستسلامه وحضوره، وولائه المثالي.. يذكرني بإصرار وملل، بأن لي زوجة رائعة، و أن لي حظا سماويا إذ منحني هذه الهبة التي لا أجرؤ حتى على عتابها...، أحاول أن أبحث معها على شيء يفتح بيننا باب اللوم والعتاب، باب المشاكسات الصبيانية، ذلك الملح الذي ينقص حياتنا.. والذي يدفع إلى الإقبال على شرب ماء الصلح العذب، فلا أجد شيئا، عندها ألتزم الصمت.
لاحظ أن رائحة القهوة، أخذت تعبق المطبخ... نسى أمر زوجته وانطلق بفنجانه إلى الصالون، ارتمى على الأريكة ومد يده إلى محفظته ليجلب منها آخر سيجارة...
***************************
وقبل أن يخرج يده من المحفظة... كانت القيامة قد قامت..
صوت رعد قادم من عمق الأرض.. ريح صرصر.. الأرض انتفضت في لمح البصر.. جدران تتهاوى، يلحق السقف بها.. أحس بصوت السقوط المدوي وقبل أن يدرك أن ما يحدث له.. شيء فظيع.. قبل أن يحاول الهرب بعد أن فهم أخيرا.. أنه الزلزال.. كان كل شيء.. قد انتهى..
**************************
فتح عينيه... وقد خيم سكون قاتل.. ليجد نفسه محجوزا في قبو مظلم تلمس جسده، ليتأكد من وجوده، أعاد الكرة مرات ومرات ليتفقد جسده، وجده غير منقوص ولا مصاب، لم يحس بشيء وكأن هذا اللوح ليس منه، رحلت كل أحاسيس الألم.. كان فظيعا ما يحس به من خوف، جمدت أوصاله، جف حلقه، غاب صوته، حاول أن يصرخ لم تستجب حباله الصوتية لرغبته، لم يستوعب جيدا ما حدث، لم يصدق ما يحدث..
كان يرتعش وقد فهم أنه تحت الأنقاض، لم يكن خوفا ما اعتراه بل فزع رهيب.
هو فعلا لم يمت ولم يصب.
وهو فعلا محجوز بين حجرين، في نقطة ما من العمارة، في طابق ما،
لا يدري كيف طار ليحط به، وكيف جاءت الصخرتان لتحميا رأسه وكل جسده؟
فكر لأول وهلة أنه محظوظ، وأن الله يحبه و.. أنه ولي صالح يتلقى أولى كراماته، وإلا كيف سخر له الحجر؟
بقي مشدوها وقتا قصيرا، يحمد الله ويشكره، في انتظار أن يأتي الفرج ويهب الناس لنجدته.
جمع كل قوته وأخذ ينادي..
- أنا حي، أنا هنا، هل يسمعني أحد؟ النجدة، النجدة..
كان صوته يعود إليه أجوفا، مكتوما.
كانت الوحشة تسقط لعنتها على المكان، وبدأ شيئا فشيئا يختنق من ذلك الصمت الذي أخذ يتضخم بداخله، يكبر ثم يكبر محفوفا بأشباح تسقط على رأسه، تتسرب إلى داخله، تعبث بقلبه المرتجف، تكرر صرخاتها المتهاوية في أحشاءه كنيازك ماردة تلهب يأسه.
حاول أن يرهف سمعه ربما يأتيه صوت الإغاثة.. لم يكن يأتيه إلا صوت وحيد.. أنفاسه الخافتة المتضخمة أحيانا بآهات عميقة متقطعة...
الهواء كان يأتيه ممزوجا برائحة التراب والإسمنت، لكنه لم يكن يرى شيئا، الظلام يعسعس على المكان، فكر في الوقت، كم مر عليه من وقت منذ حدث الفزع العظيم، تذكر ساعته، تلمس رسغه، أحسها تتكتك، لكن لا يمكنه رؤيتها، تحسس الأرض من حوله، وقعت يده على شيء يعرفه، إنها محفظته، ما تزال بجانبه، تذكر ولاعته، نعم، ولاعته في المحفظة وهو كان يهم بإشعال آخر سيجارة قبل...
أخرجها، وضغط.. تساءل.. وهو يرى الولاعة تشتعل..
الأوكسجين يتسرب إليه من مكان ما.. إذن هو ليس بعيدا عن السطح، رفت على محياه راحة خفيفة، لم يتفطن إلى الهواء وهو يتنفس، لعل ذلك يبدو بديهيا،
ضغط على ولاعته وقرب رسغه من عينيه.. الساعة الثامنة وخمس دقائق، فقط الثامنة وخمس دقائق، منذ دقائق كان في وضع آخر ولجهالته، كان يتذمر من الراحة الزائدة التي كان ينعم بها..
غمغم في سره مقولة قرأها لشارل بود لير(الحياة مستشفى.. كل مريض فيه مهووس برغبة تغيير السرير..)
فكر في زوجته وأولاده..
فكر ببساطة في الموت.
استسلم لنوبة بكاء حادة.. هل يعقل أن تنتهي حياته هكذا؟ مرددا بهمس مبحوح..
- هل سيأتي أحد لنجدتي؟ وماذا لو حدثت هزات أخرى، سيتهدم ما تبقى من المبنى وسأتفتت تحت الصخور.. لست الولي الصالح الذي أنقذته الصخرة بمعجزة.. إنما هي اللعنة التي تنسكب حممها على قلبي قطرة قطرة، ليت الموت يأتي الآن، ليخلصني من عذاب لن أطيقه، مجرد التفكير في هزات أخرى أمر فظيع، ماذا يمكنني أن أفعل؟ أصرخ..
وراح يصرخ بأعلى صوته طالبا النجدة.. كان صوته يرتد إليه منكسرا ضارعا مستجديا..
وفي ساعة يأس.. لاحت له صور حياته مرتبة وديعة مغرية، مط شفتيه ولبث برهة يشد على صدره بقوة، يحاول كبت صرخة تخرجه كالصاروخ من هذا القبر، مخترقا الكتل التي تراكمت فوقه، لكنه تذكر أنه مجرد عبد ضعيف... ضعيف جدا.. جدا جدا.. لم يدرك يوما بأنه بمثل هذا الضعف، دائما كان يقول بأن الإنسان يملك قدره، وأن العقل رهانه في ذلك، لماذا عقله لا يستجيب لتضرعاته، لماذا يردد دون هوادة..
- أنقذني إلهي، يا رب... يا رب.. لم يذكر ربه مثلما يفعل الآن، هل هو مؤمن إلى هذا الحد.. أم أنه الخوف والعجز.. فكر في هذا وفي أشياء أخرى واستسلم لليأس.. فكر أيضا في مواجهة نفسه.. هي اللحظات الأخيرة.. دائما يتحول البشر في اللحظات الأخيرة إلى كائنات وديعة.
- الأولاد وأمهم.. كيف يكون وضعهم الآن؟
هلع قلبه ووجب وجيبا حتى كاد يخرج من فمه حين اهتزت الأرض ثانية تناثر التراب من فوق رأسه، تسرب إلى حلقه، أخذ يسعل ويسعل حتى كاد يقيء قلبه، قلبه الذي أراد أن ينفذ من بين ضلوعه، لا يعلم كيف تراءت له صورة الشيخ الجليل في هذه اللحظة بالذات، وهو يحذره ملقنا إياه أهوال يوم الفزع العظيم..
- إياك الكذب والسرقة وقول الزور والحسد و... فسوف يسألك رب العرش العظيم عما أتت يمينك، فينطق لسانك.. أنا قلت كذا وكذا.. ويدك أنا فعلت كذا وكذا.. وقلبك.. وبطنك.. و.. و..
لعلها القيامة، لعله الفزع العظيم، كل شيء فيه يتكلم، يسمع رعشة يده، اصطكاك أسنانه، تشنج بطنه، قلبه يصرخ، يكاد يهرب من صدره، تمنى أن يمسخ في هذه اللحظة في هيئة نملة، صرصار، عنكبوت، أي حشرة صغيرة، أي مخلوق وضيع كانت تدوسه أقدامه ذات يوم دون أن يعبأ بآلامه وهو يسحق، يفتت، تزهق روحه دون أن يسمع أحد نداءه، حسد تلك الحشرات على ضعفها..
- لو كنت كذلك، لتسللت من بين الركام، أو لتغلغلت في جوف الأرض بحثا عن جحر يقيني، من سيسمعني؟ كم بقي لي من الوقت حتى...
آه لماذا لم تحطم الأحجار رأسي مرة واحدة وأنتهي من هذا العذاب؟ هل سأموت جوعا، أم عطشا؟ أم خوفا؟ أم اختناقا؟ أم حرقا، ماذا لو تسربت غازات سامة إلي، ماذا لو اشتعلت نيران مهولة تأكل جسدي وأنا محجوز بين حجرين؟ ماذا لو تسللت الجرذان إلي تنهش جسمي ببطء؟ ماذا لو تكررت الهزات الارتدادية وأصبت دون أن أموت، سأموت بعد أن أفقد كل دمائي؟يا... كم سيتفنن الموت معي.. علي أن أجد وسيلة، سأموت حتما، وإن كتبت لي الحياة، أكيد سأخرج من هنا وقد فقدت عقلي، سأقرأ القرآن.. لكنني لا أحفظ منه إلا بعض السور، ثلاث، أربع... نسيت.. لا يمكنني أن أستجمع الآيات بشكل صحيح.. يا ويلي..
النجدة، النجدة، النجدة...، مازلت حيا، أريد أن أحيا، أريد أن أعيش...
أخذ يصرخ بملء صوته حتى جف حلقه وتصبب العرق من كل جسمه، خارت قواه، وخرج النشيج من أعماقه طويلا كسيرا... كان وحيدا ساعتها كما لم يحدث معه أبدا
- هل هذه هي الوحدة؟ ليس الوحدة أن تكون بمفردك، بل ألا تملك شيئا لنفسك غير التوسل لصدفة ما، معجزة أن تحدث..
كثيرا ما كنت أشتكي وحدتي وغربتي، أتذمر من إحساسي بالتيه، زوجة وأولاد ومعارف كثر وأهل وخلان.. وبيت وسقف.. وحي ومدينة، ووطن، سماء تمتد أمام ناظري وأرض تستقر.. عليها قدمي.. وهواء وماء.. وخضرة، وأصوات.. حركات تعودت عليها، تذمرت منها، .. وماذا أرى الآن، ظلاما وعجزا ويأسا و... حسرة.
ماذا أملك لنفسي؟ غير الآهة، والانتظار، انتظار.. ماذا؟ | |
|
المشاغب مشرف منتدى واحة القصص
عدد الرسائل : 185 العمر : 33 تاريخ التسجيل : 06/09/2008
| |